الاثنين، 14 ديسمبر 2009

شيزوفرينيا!

بقلم : هاني عسل

لو حدثت مشكلة المآذن هذه في دولة مثل مصر لتساءل بعض المعلقين بالعبارة الساخرة التقليدية : "هل انتهينا من حل كل مشاكلنا حتى نناقش مشكلة المآذن"؟! .. ولكن في سويسرا الوضع مختلف تماما!

فهل يعرف أحد منا في مصر اسم رئيس سويسرا أو رئيس وزرائها؟ هل نعرف عن سويسرا شيئا غير "الساعات السويسرية"؟ أو "الشيكولاتة السويسرية"؟! ربما سمعنا القليل عن "الحسابات البنكية السرية" التي كانت سببا - أو ربما نتيجة – لازدهار صناعة الخدمات المصرفية في هذه الدولة الصغيرة المحاطة بالدول الأخرى من كل جانب بعد أن تحولت سويسرا بموجبها إلىملاذ آمن لأثرياء العالم الذين يريدون تأمين ثرواتهم بوضعها في مكان آمن لا يطلع عليه أحد ولا يصل إليه أحد.

وربما يعرف عامة المصريين عن سويسرا أيضا أنها مقر الفيفا "الاتحاد الدولي لكرة القدم" ، وموطن جوزيف بلاتر رئيس "جمهورية الفيفا العالمية" ، ومقر نادي سيون الذي لعب له عصام الحضري!

وربما يعرف قطاع "قليل" من المصريين أن سويسرا "المحايدة" هي مقر لعدد كبير من المنظمات الدولية ويقترن اسمها بأسماء عدد غير قليل من المعاهدات والاتفاقيات الدولية ، كما يكن مستخدمو الإنترنت وهواة متابعة المواقع الإخبارية كثيرا من الاحترام لموقع "سويس إنفو" الذي يعد من المواقع الإخبارية المتميزة على الشبكة العالمية ، كما أن سويسرا هي الدولة الوحيدة في العالم التي يمكن أن تبحث عن اسمها في موقع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "سي.آي.إيه." الشهير على الإنترنت وتدخل إلى خانة "الصراعات الدولية أو الإقليمية" ، لتجد أن هذه الخانة مكتوب عليها عبارة "لا يوجد" ، أي أن هذه الدولة التي يصل متوسط دخل الفرد السنوي فيها 65 ألف دولار لا توجد لها أي نزاعات أو خلافات سياسية أو عسكرية مع أي دولة مجاورة أو غير مجاورة ، وحتى بالبحث في خانة "مشكلات داخلية" سنجد أن سويسرا تعاني من مشكلة واحدة فقط هي الإتجار غير الشرعي في المخدرات المرتبط بغسيل الأموال .. وهذا كل شيء!

لقد دفعت قضية الاستفتاء على حظر بناء المآذن اسم "سويسرا" ليحظى للمرة الأولى منذ سنوات طويلة بمكانة مرموقة بين عبارات البحث على موقع "جوجل" الشهير على الإنترنت ، ويكفي كتابة اسم "سويسرا" باللغة العربية على خانة البحث على هذه المحرك الشهير لتجد أن نتائج البحث تتخطى 10 مليون نتيجة بحث!

إذن فمن الواضح أن سويسرا ليست لديها مشكلات بالفعل ، ولهذا لم يكن أمامها سوى "صناعة" مشكلة من لا شيء لكي يكون لديها "مشكلة" تخرج مواطنيها من حالة الحياد الممل التي تسود منذ عهد حروب نابليون بونابرت!

إذن ، فمشكلة سويسرا أنها عثرت على مشكلة ، مع الوضع في الاعتبار أن عدد سكان سويسرا كلهم لا يتعدى 7,6 مليون نسمة ، وأن المسلمين من بينهم لا يشكلون أكثر من 4,3% من إجمالي عدد السكان ، أي أن مشكلة المآذن لا تتربط سوى بعدد لا يكاد يزيد كثيرا عن عدد سكان مدينة عربية واحدة!

لم تكن قضية الاستفتاء على المآذن مشكلة عادية ، فهي دليل جديد على استمرار تصاعد قوى اليمين المتطرف في أوروبا بصفة عامة ، وهي إحدى مظاهر صراع الدول الأوروبية من أجل الحفاظ على هويتها المسيحية ، بدليل أن القضية لم تكن مرتبطة بفكرة بناء مسجد ، وإلا لأصبحت سويسرا متهمة صراحة بانتهاك الحريات الدينية ، وإنما في وجود "مئذنة" أعلى هذا المسجد ، وهو ما أكد عليه السفير السويسري في تصريحاته الأخيرة لـ"الأهرام" التي شدد فيها على أن قرار منع بناء المآذن لا يعبر عن اعتراض سويسري رسمي على الجالية المسلمة أو على الإسلام كدين وثقافة ، وهو تصريح يؤكد أن سويسرا أوقعت نفسها – في إطار بحثها عن مشكلة – في نفس دائرة الفهم الخاطيء للإسلام وسوء التقدير لهذا الدين العظيم ، التي وقعت فيها من قبل دول غربية أخرى ، مثل الولايات المتحدة التي ربطت إبان إدارة جورج بوش الإبن بين الإسلام والإرهاب ، وفرنسا التي تعاملت مع الحجاب والنقاب على أنهما مجرد رمزين لا قيمة لهما ، وأيضا تلك الدول التي نشرت وتبنت الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم ، معتقدة أن الأمر مجرد وسيلة "لهو" بريئة بشعار حرية التعبير ، ودول أخرى تبنت المسيئين للإسلام من أمثال سلمان رشدي وجيرت فيلدرز ورفعتهم مكانا عليا في تحد سافر لمشاعر المسلمين الذين يشكلون خمس سكان العالم.

سوء النيات مستبعد في حالة سويسرا ، ولكن الفهم الخاطيء للآخر بات أمرا لافتا في المجتمعات الأوروبية ، خاصة وأن الأمر الآن لم يعد مجرد رسما مسيئا في صحيفة لكي يمكن التذرع بمبدأ عدم جواز تدخل الحكومات في حرية الإعلام ، وإنما الاستطلاع السويسري يعبر عن اتجاه شعبي عام أثبتته الأغلبية وبات لزاما على الحكومة بدورها أن تتبناه وتنفذه ، والمسئول عن الفهم الخاطيء هنا ليس الحكومة السويسرية وحدها وإنما الجالية الإسلامية والمؤسسات الإسلامية في الداخل السويسري التي تعاملت منذ البداية مع هذه القضية على أنها قضية داخلية تخصهم وحدهم وأنهم قادرون على حلها بمفردهم ، دون مراعاة حقيقة أن أي قضية تمس المسلمين في أي دولة في العالم هي قضية تعني المسلمين جميعها.

ومن حسن الحظ أن الأمر ليس خطيرا إلى هذه الدرجة ، فحرية العبادة مكفولة بالفعل في سويسرا ، ومسجد بدون مئذنة لن يمثل مشكلة من الناحية العقائدية ، ولكن المشكلة تكمن في أنها "إهانة" دون قصد ولا مبرر إلى المسلمين بصفة عامة تكررت بشكل أو بآخر أكثر من مرة في دول غربية أخرى ، فالمئذنة ليست مدفعا أو قاعدة صواريخ تستدعي طرح أمرها على استفتاء على غرار استفتاء جرى مؤخرا لحظر بيع الأسلحة السويسرية إلى دول في حالة حرب مثل باكستان أو تشاد.

ختاما يكفي أن نقول إن صحيفة "الجارديان" البريطانية علقت على نتيجة الاستفتاء السويسري بأنها "عار" على سويسرا ، ويكفي هذا التعليق للتأكيد على حجم الخطأ الذي وقعت فيه هذه الدولة الصغيرة الثرية المسالمة والمحايدة ، وعلى أن مرض الإسلاموفومبيا في أوروبا بات بالفعل يحتاج إلى وقفات كثيرة بعد أن تحور المرض ليصبح اسمه الحقيقي هو "الجهل فوبيا" ، وأنه بدلا من أن يصر الغرب على تلقين دول العالم العربي والإسلامي دروسا في حقوق الإنسان والديمقراطية وحماية الأقليات ، فإن عليه أولا أن ينصت أولا إلى هذه الدول فيما يجهله بدلا من طرح أمور كهذه في استفتاء يصوت فيه عموم الناس الذين يقل مستوى معرفتهم وفهمهم عن حكومتهم.

هناك تعليق واحد:

  1. في التعليق على هذا الموضوع ، يرجى الامتناع عن أي تعليقات مثيرة للفتنة الطائفية أو مسيئة للأديان.

    ردحذف