الاثنين، 5 يوليو 2010

أفغانستان .. وصفقة "الشيطان"!


تبدو أفغانستان هذه الأيام على أعتاب مرحلة جديدة تشهد تغيرات جذرية على أرض الواقع ، سواء على صعيد المشهد السياسي أو العسكري أو الداخلي ، حيث تتردد تقارير عن احتمال إبرام "مصالحة" تاريخية بين حكومة الرئيس حامد كرزاي والإدارة الأمريكية من جانب وبين حركة طالبان المتمردة من جانب آخر ، بعد أن أصبح واضحا أن واشنطن عازمة على سحب قواتها من أفغانستان قبل عام 2011 لا محالة ، وأنها لا تزال حتى هذه اللحظة تفقد الثقة في قدرة كرزاي وحكومته على إدارة الأمور بالشكل الصحيح بعد الانسحاب ، بل ومن الآن.

وبعد أن اضطرت الولايات المتحدة في "تجربة" العراق إلى قبول مبدأ الاستعانة ببعض البعثيين السابقين للعودة إلى المسرح السياسي لإنقاذ الموقف ، بل إنها اختلفت مع الحكومة العراقية بشدة في العام الماضي بسبب إصرار واشنطن على عودة هذه العناصر ذات الخبرة في الشئون السياسية والمدنية ، أثبح لزاما على واشنطن أن تفعل المثل في أفغانستان بمد يدها إلى طالبان المتحالفة مع القاعدة ، وهما الخصمان اللدودان اللذان حلت القوات الأمريكية على الأراضي الأفغانية في أواخر عام 2001 للقضاء عليهما في أعقاب هجمات سبتمبر!

الفكرة مجنونة ، ولكنها واقعية للغاية ، وتعكس فشلا ذريعا للفكر العسكري الأمريكي الذي انتهجته الإدارة الأمريكية السابقة في العراق وأفغانستان في إطار ما يسمى بالحرب على الإرهاب ، فمن حاربه جورج بوش الإبن في العراق وأفغانستان يستغيث به الرئيس الحالي باراك أوباما الآن لإتمام عملية سحب القوات الأمريكية من أرض المعركتين "على خير" ، لأن الإبقاء على نظام ضعيف ، وخاصة في أفغانستان ستكون له عواقب وخيمة.

والحديث عن صفقة محتملة بين كرزاي وطالبان كان يعتبر ضربا من الجنون قبل سنة أو اثنتين ، ولكنه الآن حقيقة ، أو ستصبح كذلك خلال أسابيع وربما أشهر قليلة ، ومما يمهد لذلك حركة تغييرات واسعة النطاق في المناصب حدثت في الآونة الأخيرة بين المتحالفين الثلاثة الأبرز على الساحة الأفغانية ، سواء في الولايات المتحدة بإقالة الجنرال ستانلي ماكريستال ، أو في بريطانيا بإقالة رئيس الأركان ، أو حتى في أفغانستان بعد إطاحة كرزاي باثنين من أقوى رجاله وهما وزير داخليته حنيف الله أثمر ورئيس المخابرات أمر الله صالح.

هناك تحذيرات جمة مما يمكن أن يحدث بسبب هذه الصفقة ، فصحيفة "نيويورك تايمز" أفزعت أوباما بتقرير ذكرت فيه مؤخرا أن تحالف طالبان – كرزاي المتوقع سيدفع بأفغانستان إلى شفا حرب أهلية دموية لن يكون للقوات الأمريكية مكان فيها ، إذ أن وصول طالبان إلى السلطة بشكل أو بآخر سيثير غضب القوميات الثلاث الرئيسية الأخرى في أفغانستان بخلاف طالبان ، وهي الأوزبك والطاجيك والهزارة ، فضلا عن أقلية من البشتون المناوئين لطالبان.

وأشارت الصحيفة إلى تصريحات صدرت عن قادة كبار في هذه القوميات أكدوا فيها استعدادهم لحمل السلاح فورا في حالة عودة طالبان إلى الحكم ، ونظرا لأن هذه القوميات تشكل أكثر من نصف عدد سكان أفغانستان ، فإن حربا أهلية كهذه ستكون أمرا لم يسبق له مثيل ، ولن يكون بمقدور واشنطن ولا الناتو ولا كرزاي التعامل معها ، أضف إلى ذلك أن إقالة ماكريستال قوضت ثقة المواطن الأفغاني العادي في حلف "الناتو" وقدرته على الدفاع عن أمن البلاد أو حماية كرزاي الذي سيصبح في هذه الحالة "شمعة" في مهب الريح بعد أن خسر ثقة حلفائه وزادت عزلته ومخاوفه بعد تخليه عن "أثمر" و"صالح" ، وهو يحاول من الآن تشكيل شبكة جديدة من الحلفاء للارتكان إليهم في حالة تعرضه لضغوط داخلية أو خارجية ، وهؤلاء الحلفاء من بينهم إيران وطالبان والموالين لطالبان في باكستان ، والبشتون بصفة عامة.

أما عن صفقة كرزاي – طالبان نفسها ، فالواقع أن من يدير الأمر هم الأمريكيون وليس كرزاي نفسه ، وهو ما أكده ديفيد إجناشيوس في مقال له بصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية ، حيث ذكر أن الجانبين يتحاوران حاليا – كلا مع نفسه – بشأن تحديد شكل هذه المصالحة المقبلة وشروطها وكيف يمكن أن تحدث ، مشيرا إلى أن كل طرف منهما يشعر بالإرهاق من كثرة الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها من جراء المعارك الأخيرة ، ويريد كل منهما أن يستفيد قدر الإمكان من المصالحة في تقوية نفوذه والحصول على وضع قوي في المرحلة المقبلة.

وعلى الرغم من تأكيد إجناشيوس على أن طالبان هي الأكثر تضررا – على الصعيد النفسي – من خسائرها الأخيرة ، فإنها ما زالت الطرف الأقوى في المعادلة باعتبارها الطرف "الدائم" أي الذي سيبقى "في الصورة" ، بل إن طالبان يمكنها استخدام الحديث عن المصالحة كمناورة تكسب بها بعضا من الوقت وتلتقط أنفاسها لحين خلو الساحة لها بعد عام عندما تنسحب القوات الأمريكية من أفغانستان ، لتنقض الحركة المتمردة بعد ذلك على كرزاي إن كان لا يزال في السلطة.

كل طرف أعلن شروطه الرئيسية : فطالبان يريدون أن يكون لهم دور ونفوذ في الحكم ، فضلا عن الشرط الأساسي وهو خروج كافة القوات الأجنبية من البلاد ، وهو شرط ذكي باعتبار أن خلو أفغانستان من القوات الأجنبية يعني بالضرورة أن طالبان ستكون أقوى الموجودين في أفغانستان ، بينما تشترط الولايات المتحدة قطعا كاملا لعلاقات طالبان مع القاعدة ، وربما التخلي عن أسامة بن لادن زعيم القاعدة صراحة ، فضلا عن إلقاء السلاح ، والخضوع للقوانين الأفغانية الحالية.

وعلى الرغم من أن طالبان لا تعترض على أي من هذه الشروط كما هو واضح من خلال الاعترافات التي استقتها المخابرات الأمريكية من قادة طالبان البارزين الذين تم اعتقالهم في الآونة الأخيرة وتحدثوا عن تفاصيل بشأن ما يفكر فيه قادتهم الأرفع شأنا ، فإن واشنطن ما زالت متشككة حتى هذه اللحظة من رغبة طالبان في تحقيق مصالحة حقيقية ، بدليل ما ذكره ليون بانيتا مدير المخابرات الأمريكية من أنه لم يعثر حتى الآن على دليل يؤكد وجود مصلحة لطالبان من هذه المصالحة نظرا لعلمهم بأن الساحة ستخلو لهم بعد عام وأنهم ما زالوا حتى الآن هم الطرف الأقوى ، فضلا عن معلومات أخرى تفيد بأن الملا عمر نفسه غير راغب في المصالحة التي ستقوض صورته أمام أتباعه الذين سيرون فيه قائدا يتحالف مع الأعداء.

ومع ذلك ، فاحتمالات المصالحة أيضا قوية ، خاصة وأن البشتون يعتبرون في ثقافتهم أن المصالحة ممكنة مع "الأعداء" إذا كانت القوة متكافئة بين الطرفين ، وهو ما يمكن أن يوجد مخرجا للملا عمر من هذا المأزق ، ويدفعه إلى التصالح مع "الأعداء".

ولا ننسى أن فكرة تصالح الأمريكيين مع طالبان هي الأخرى "قاسية" وتنطوي على مخاطرة لأنه أشبه بفكرة الاستعانة بـ"الشيطان"!